فتى المنجم [1]
...
...
...
وقف داريوس أمام نافذة تطل على المدينة الصاخبة. انعكس ضوء القمر الخافت على ثوبه الأسود وهو يتأمل الأحداث الجارية خارج أسوار القلعة.
رأى أضواء المشاعل المتذبذبة بين الأزقة، وأصوات الحراس وهم يجوبون الشوارع. أدار وجهه عن النافذة ودخل القاعة بخطوات ثقيلة.
انعكس ضوء الشموع الخافت على ملامحه القاسية بينما كان عقله يعيد تمثيل الأحداث.
واقترب من الطاولة الخشبية الكبيرة في وسط الغرفة، حيث كانت هناك خريطة ضخمة للمدينة ممتدة أمامه، تحمل رموزًا وخطوطًا تشير إلى المناطق الخاضعة لسيطرته.
مدّ يده ليلمس إحدى دوائر الحبر الأحمر، التي تُشير إلى موقع الاضطرابات الأخيرة. "هذا ليس مصادفة..."
"هل وجدت أي أثر له؟" سأل داريوس بصوت هادئ.
"لا سيدي..." تردد الرجل للحظة قبل أن يواصل حديثه، "ولكن... هناك شهود يزعمون أنهم رأوا شخصًا يهرب عبر أسطح المنازل."
ضرب داريوس بقبضته على الطاولة برفق، مما تسبب في اهتزاز الخريطة قليلاً، وسقط قلم حبر أحمر على الأرض.
حدق في الخريطة بشدة، وكان صوته منخفضًا: "تسك... هل كان يجب أن أطارده؟!"
تردد صدى صوته في القاعة الفارغة كالرعد، وعيناه تلمعان بقلقٍ مكتوم. ارتجف الخادم أمامه قليلاً، لكنه ظلّ ثابتًا في مكانه، عاجزًا عن الحركة.
أدار ظهره للنافذة مجددًا، ويداه متشابكتان خلف ظهره، وأصابعه تضغط بعضها ببعض حتى ابيضت مفاصله. "هذا يعني أن شخصًا آخر يعرف قيمة الفاكهة..."
وفي هذه الأثناء، وفي جنح الليل، وبعد الهروب من مطاردة التاجر وأولئك الأشخاص الآخرين، وجد أليكس نفسه يتنفس الصعداء في زقاق مهجور.
كان الهواء باردًا ورطبًا، وضوء القمر الخافت يُلقي بظلاله الزرقاء الباهتة على الشوارع. اتكأ أليكس على جدار قديم، محاولًا استيعاب ما حدث للتو، وقلبه لا يزال ينبض بخفة بعد لحظات من التوتر الشديد.
"هل أنضم إلى طائفة أم عشيرة؟" فكّر أليكس بهدوء. "ولكن هل سيقبلونني؟" تساءل أليكس مجددًا، وعاد عقله إلى واقعه الحالي.
كان مجرد محارب من الدرجة الثالثة، بلا أي مهارات قتالية حقيقية. في هذا العالم حيث القوة هي المعيار الأساسي، شعر وكأنه لا يملك شيئًا يلفت الانتباه.
"فنان قتالي من الدرجة الثالثة..." تكررت الكلمات في ذهنه كما لو كانت لعنة.
تراجع أليكس قليلًا، وأغمض عينيه للحظة ليطرد الأفكار التي بدأت تتدفق في ذهنه. شعر بالضياع.
"لا جدوى من التفكير الزائد الآن..." همس لنفسه وهو يفتح عينيه مجددًا. "دعني أجد عملًا، وأستأجر منزلًا، ثم أفكر في حل لاحقًا."
واصل أليكس سيره في الزقاق الضيق، وأصوات المدينة الصاخبة تتلاشى خلفه. أنعش الهواء البارد وجهه.
"أحتاج إلى مكان آمن... حتى لو ليوم واحد فقط"، همس وهو يمر بحانة صغيرة، حيث انبعثت أصوات ضحكات خافتة من الداخل. تردد للحظة قبل أن يقرر الدخول. ربما يجد بعض المعلومات هنا، أو حتى وجبة دافئة.
كان الجو داخل الحانة دافئًا، تفوح منه رائحة الخبز الطازج واللحوم المشوية. نظر إليه بعض الرواد بنظرات فضولية، لكنهم سرعان ما عادوا إلى أحاديثهم.
توجه أليكس إلى أهدأ ركن وجلس على كرسي خشبي مهترئ. سأله النادل، وهو رجل عجوز ذو عينين متعبتين: "ماذا أحضر لك؟"
"وجبة دافئة... وأي معلومات عن أماكن رخيصة للإيجار،" أجاب أليكس بصوت منخفض.
نظر النادل إلى أليكس للحظة قبل أن يقول بهدوء: "إذا كنت تبحث عن مكان للإقامة، يمكنك التحدث مع ذلك الرجل هناك. اسمه توماس، ويسكن في حي البازار القديم. يؤجر بعض الغرف بأسعار معقولة. لكن لا أستطيع ضمان سلامتك هناك، فالمنطقة ليست الأفضل في المدينة."
أومأ أليكس برأسه شاكراً للنادل، ثم وجه نظره إلى الرجل الذي أشار إليه.
كان الرجل عجوزًا، ذو لحية كثيفة وعينان غائمتان، جالسًا على طاولة قرب المدفأة. كان يعبث بفنجانه وهو يحدق في النار، وكأن الأوقات العصيبة التي عاشها تتجسد في تلك النظرة.
وقف أليكس ببطء، ومشى نحو الرجل الجالس، وبينما اقترب، رأى ابتسامة خفيفة على وجهه، لكنها لم تكن مطمئنة.
"هل أنت توماس؟" سأل أليكس بلطف وهو يقترب.
نظر إليه توماس بعناية قبل أن يجيب بصوت عميق، "نعم، أنا توماس. هل تبحث عن مأوى؟"
أجاب أليكس بسرعة: "نعم، أحتاج إلى مكان للإقامة لفترة من الوقت، ولكنني أبحث عن شيء مريح وغير مكلف للغاية".
أومأ توماس ببطء، ثم أشار إلى الكرسي المقابل له. "اجلس... لنتحدث عن السعر أولًا."
جلس أليكس بحذر بينما ملأ توماس كأسه بالنبيذ الداكن. رفع الكأس إلى الضوء الخافت، متفحصًا لونه قبل أن يرتشف رشفة بطيئة.
لديّ غرفة صغيرة في الطابق العلوي من منزلي... نافذتها تُطل على الزقاق الخلفي. هادئة، لكن جدرانها رقيقة. إذا كنتَ من النوع الذي يصرخ أثناء نومه، فقد تُزعج الجيران، ضحك توماس بهدوء، وكأنه يمزح... أو ربما يُحذّره.
"كم الإيجار؟" سأل أليكس مباشرةً، محاولًا تجاهل الملاحظة الغريبة. "خمس قطع فضية أسبوعيًا... مع وجبة واحدة يوميًا."
كان السعر معقولاً لغرفة في مدينة مزدحمة، لكن أليكس لم يكن متأكداً من كفاية المبلغ. "هل يمكنني الدفع خلال يومين؟ لديّ بعض الأعمال المتأخرة..."
"الدفع خلال يومين، أليس كذلك؟" تمتم توماس بصوت أجش، ثم انحنى إلى الأمام قليلاً، ووضع مرفقيه على الطاولة.
هذا ليس شيئًا أفعله عادةً. عادةً ما يختفي الشباب الذين يطلبون دفعات متأخرة قبل أن أراهم مجددًا.
لم يبدُ على أليكس أي دهشة، فقد توقع هذا الرد. ثبت نظره وقال بهدوء وحزم: "لستُ من النوع الذي يهرب. أحتاج فقط إلى بعض الوقت للحصول على المال، ويمكنني تقديم خدمة مقابل التأخير".
ابتسم توماس بخفة ووضع كأسه على الطاولة، ثم انحنى إلى الأمام، وكانت عيناه تلمعان بالمكر.
"خدمة، هاه؟" قال بهدوء، وكأنه يزن كلماته بعناية.
أومأ أليكس برأسه بقوة، محاولاً أن يبدو واثقًا.
"حسنًا..." تمتم توماس وهو يمرر أصابعه بين لحيته الكثيفة. "هناك دائمًا عمل يتطلب أياديًا... لكنني أعتقد أن شيئًا بسيطًا لن يفيدك كثيرًا الآن."
نظر إليه أليكس باهتمام بينما تابع توماس حديثه: "سمعتُ أن المناجم القريبة تحتاج إلى عمال. إنها ليست الوظيفة الأكثر راحة، لكنها مجزية، وربما يمكنك إنجاز ما تحتاجه في يومين أو ثلاثة أيام إذا عملت بجد".
عبس أليكس قليلاً. لم يكن يفكر في الأشغال الشاقة كخيار، لكنه كان يعلم أن ليس لديه الكثير من البدائل.
"المناجم، هاه؟" همس في نفسه، ثم نظر إلى توماس. "أين يمكنني التقدم لهذه الوظيفة؟"
ضحك توماس ضحكة قصيرة قبل أن يرد: "في السوق القديم، بجوار المستودع الكبير خلف سوق الحدادين. اسأل عن رجل يُدعى "جارل". أخبره أن توماس أرسلك، وسيعرف ما يجب فعله."
أشار توماس إلى النافذة حيث كانت أضواء المدينة تتلألأ في الليل. "جارل ليس ودودًا، لكنه يدفع نقدًا بعد كل نوبة عمل. ثلاث قطع فضية يوميًا، إن كنت قادرًا على العمل."
حدّق أليكس في يديه الناعمتين، اللتين لا تعرفان سوى الأقلام وصفحات القصص. هل سينجح؟
"وهل هناك... خيارات أخرى؟" سأل بهدوء.
أدار توماس كأسه ببطء، وعيناه الغائمتان تتأملان أليكس. "هناك دائمًا خيارات يا بني. لكن لكلٍّ منها ثمنه."
توقف للحظة قبل أن يضيف: "إذا كنت تبحث عن مال سريع، يمكنك التوجه إلى الحانات والاستفسار عن أعمال مؤقتة. أما إذا كنت تريد شيئًا مضمونًا، فالمناجم هي خيارك الأمثل".
تنهد أليكس ببطء، ثم أومأ برأسه. "حسنًا... سأذهب لرؤية هذا "الجارل" في الصباح."
ضحك توماس بهدوء، رافعًا كأسه قليلًا. "حظًا موفقًا يا بني."