بعد مرور الساعات
وجدتُ نفسي جالسًا وحدي على شرفة الغرفة، أتنفس هواءً باردًا يلامس وجهي برفق. غادرت سيليا الغرفة منذ قليل، تاركةً وراءها هدوءًا ملأ المكان.
لكن رغم هذا السكون، لا تزال ذكريات حديثها تتردد في أذني. سيليا... تكلمت كثيرًا، لدرجة أنني شعرتُ برغبة في الصراخ عليها. لو لم أُكبح جماح نفسي...
لكن، رغم كل شيء، لا أستطيع أن أنكر أن ما قالته كان ذا معنى. كلماتها كانت تحمل ثقلًا وعمقًا، بل ربما صدقًا مؤلمًا. ومع ذلك... لم أكن مهتمًا. لا لسبب، إلا أنني كنت أعرف كل ذلك مُسبقًا. أعرفه منذ اللحظة الأولى التي وُلد فيها صاحب هذا الجسد، من صرخته الأولى حتى تلك اللحظة التي اختطفه فيها أولئك الرجال ذوو الأقنعة السوداء، فظهروا ككابوس في ليلة سكون.
تنهدت ببطء، وكأن أنفاسي مثقلة بالذكريات التي رفضت المغادرة، ثم همست...
"يجب أن أذهب للنوم الآن."
نهضتُ من الكرسي الخشبي الذي أصبح باردًا تحت جسدي، وتمددت أطرافي المتيبسة. وقبل أن أستدير لأعود إلى الداخل، لمحتُ ظلًا... ظل فتاة، فتاة ذات شعر أزرق - الشيء الوحيد الذي استطعتُ تمييزه من ملامحها الغامضة - تقف في الحديقة، أمام نافذتي مباشرةً. توقفتُ، وحاجبي يرتفع في حيرة غريزية، ونظري مُركّز على ذلك الظل الذي بدا كبقايا حلم لم يكتمل.
تمتمت بصوت بالكاد مسموع:
"من هو الذي؟"
ثم هززت رأسي وواصلت بنبرة منزعجة قليلاً:
"لعنة، ما الذي يهمني؟"
وبدون أن أبحث عن إجابة، دخلت الغرفة، وأغلقت الباب خلفي بصمت، وكأنني أحاول ترك تلك الظلال بالخارج... مع كل الأسئلة التي لا أريد أن أسألها الآن.
ألقيتُ بنفسي على السرير المخملي الكبير، كما لو أنني أسلم جسدي أخيرًا إلى ملاذه الوحيد بعد يوم طويل. ارتدت الوسائد بهدوء تحتي، ورفعتُ عينيّ نحو السقف، أحدق في الفراغ الرمادي فوق رأسي. ساد الصمت الغرفة، لكن رأسي لم يكن ساكنًا.
أغمضت عينيّ محاولًا النوم، لأغرق في ظلامٍ مؤقتٍ يُريحني من كل شيء، لكن النوم كان مُخيفًا تلك الليلة. كلما حاولتُ الاسترخاء، عاد وجه أمي إلى ذهني. صورتها، صوتها، حتى غيابها، ملأ قلبي.
ومعها، عادت كل لحظات اليومين الماضيين. كل ما مررتُ به، كل ما رأيتُه، ما شعرتُ به، ما فقدتُه، وما اكتشفتُه... وكأن ذاكرتي لا تريد أن تُفلتني، حتى في أشدّ لحظات إرهاقي.
"اللعنة... لماذا يحدث هذا؟"
تمتمتُ بصوتٍ أجشّ، بالكاد يخرج من شفتيّ، وأنا أضعُ ظاهر يدي على جبهتي، كأنني أحاول إيقاف سيل الأفكار الذي يتدفق في داخلي بلا رحمة. كانت الحرارة تتصاعد في رأسي، ليس من الحمى، بل من ثقل الذكريات، من صراعٍ لم يُحسم بعد بين النسيان والتشبث بما كان.
ظلت يدي على جبهتي، ثابتة، كما لو كنت أحاول إطفاء نار غير مرئية... نار لا يفهمها أحد غيري.
جلستُ منتصبًا على حافة السرير، وكأن قرارًا خفيًا قد برز مني من فرط الحيرة والتعب. ثم نهضتُ بخطوات ثقيلة وتوجهتُ نحو المكتب في زاوية الغرفة، حيث كانت الأوراق تنتظرني وكأنها تعلم أنني سألجأ إليها.
جلستُ هناك وأخرجتُ بعض الأوراق البيضاء، ناصعة البياض كأنها صفحات جديدة من الحياة. أمسكت القلم بيدٍ مرتعشة، ليس من البرد، بل من ثقل ما سأكتبه.
بدأتُ أكتب كلمات رسالة... رسالة لأمي. ليس لأرسلها، بل لأتذكرها. لأحفظ صورتها من الضياع، وليبقى صوتها حيًا بين السطور.
كتبتُ كي لا أنسى، كي لا تُغرقني الأيام القادمة...
جلستُ أكتب وأكتب، وكأن الكلمات تنتظر هذه اللحظة لتتدفق من داخلي دون إذن أو أمر. كل رسالة تحمل شيئًا منها، ابتسامتها، عينيها، دفء حضنها الذي لا يزال يسكنني رغم كل شيء. لحظات مرت، لكنها بدت وكأنها دهر، وكأن الزمن توقف ليسمع.
وعندما انتهيت أخيرًا، شعرتُ بشيءٍ ما يهدأ في داخلي. وضعتُ القلم ببطء على المكتب. نظرتُ إلى الورقة أمامي، فلم أجد كلماتٍ... رأيتُ وجه أمي يبتسم لي من بين السطور.
"هذا يكفي... يجب أن أنام الآن، لا يزال لدي عمل لم أنتهي منه في هذا العالم."
تمتمت بالكلمات كما لو كنت أوقع على نهاية فصل من الكتاب، ثم دفعت الكرسي ببطء إلى الخلف، ووقفت من مكاني.
اتجهت نحو السرير مرة أخرى، وكأنني أستعد لمعركة جديدة ستبدأ مع اللحظة الأولى من النوم.
نظرت إلى الغرفة لحظة، ثم أطفأت الضوء، تاركًا كل شيء خلفي في الظل، إلا إيماني بأن شيئًا ما لا يزال ينتظرني هناك، في هذا العالم الذي لم تغلق أبوابه بعد.
. . . .
. . . .
. . . .
أشرق صباح جديد، وتسلل الضوء بخجل من خلف الستائر، منثرًا خيوطه الذهبية في أرجاء الغرفة، مُوقظًا عيون النائمين بلطفٍ وإصرارٍ لا يخلو من إصرار. حمل الهواء معه رائحة بدايةٍ مختلفة، لا تشبه تلك التي سبقتها.
في المطبخ، وقفت امرأة بفستان بسيط، تتحرك بخفة بين الخدم، تقطع وتقلب وتهمس بالتعليمات، كما لو أن المكان جزء منها. كانت... سيليا إستوريت، سيدة القصر. بدا وجودها هناك وكأنه خرق للقواعد، كما لو أن شيئًا كبيرًا قد تغير.
وقف الخدم متجمدين، ممسكين بأدوات الطبخ دون أن يتحركوا، يراقبونها بنظرات حذرة، وهم يهمسون فيما بينهم بأصوات منخفضة ممزوجة بصوت الأواني.
"اليوم، سلوك الرب غريب بعض الشيء..."
قال أحدهم وهو ينظر إليها من زاوية عينه.
"نعم، ألا تعلم؟ الشاب... عُثر عليه الليلة الماضية."
همست أخرى في مفاجأة، وتتبعت عيناها سيليا وكأنها تحمل سرًا أكبر مما يمكنهم فهمه.
"في الواقع... السيدة استوريت تستحق أن تكون سعيدة."
جاء الصوت من خلفهم، هادئًا لكن بنبرة جادة، وكأن لكل كلمة فيه معنى أعمق مما تبدو عليه. استدار الخدم جميعًا فجأةً ليجدوا رجلاً واقفًا عند مدخل المطبخ، ملامحه حادة، وملابسه الداكنة تتداخل مع ظلال الصباح الباكر. لم يكن الرجل سوى كبير الخدم في عائلة إستوريت.
رفع سيجارته ببطء عن شفتيه، وأطلق سحابة من الدخان حامت في الهواء قبل أن تتبدد. ركز نظره على سيليا، دون أن ينطق بكلمة. بدا وكأنه يعرف شيئًا لم يعرفه أحد غيره، شيئًا لم يُقله بعد.
نظرت إليه سيليا بعينين مليئتين بالغضب، ودون أن تتوقف عن التحريض، قالت بصوت غاضب كافٍ لإسكات الغرفة بأكملها:
"أندرو... كم مرة قلت أن التدخين ممنوع داخل القصر؟"
توقف أندرو للحظة، ثم ابتسم ابتسامةً مصطنعة، لا تخلو من التحدي، كأن جزءًا منه يتوق لسماع هذا التوبيخ. ألقى السيجارة أرضًا، وسحقها بحذائه برفق، ثم رفع رأسه وقال بنبرة ساخرة لا تخلو من الاحترام:
"آسفة... سيدتي."
اقترب أندرو بخطوات هادئة، ولمست يده حافة الطاولة وكأنه يعلن عن نية بريئة، ثم قال بنبرة ساخرة تخفي بعض الجدية:
"هل تحتاج سيدتي إلى مساعدة في الطبخ؟"
توقفت سيليا عن التحرك للحظة، وكأنها تحاول قمع ما كان يرتفع في داخلها، ثم ردت بصوت يحمل غضبًا مكبوتًا...
"لا، لا أحتاج إلى مساعدة."
ثم ألقت عليه نظرة حادة وأكملت:
"هل تعلم، لو لم تكن جيدًا في إدارة شؤون القصر... لكنت قد طُردت منذ فترة طويلة."
ابتسم أندرو، تلك الابتسامة التي كان يعلم أنها تُزعجها، لكنه لم يُعلّق. اكتفى بالوقوف هناك، يُراقب عملها، وكأن بينهما أكثر من مجرد كلمات... وأكثر من مجرد خلافات صغيرة.
. . . .
. . . .
. . . .
في مكان آخر، جلس فتى ذو شعر أبيض على حافة سرير مخملي كبير، تلمع عيناه الحمراوان في الضوء الخافت. كان يرتدي ملابس نوم هادئة تتناسب مع الجو المحيط. كانت الغرفة مظلمة، إلا من ضوء خافت ينبعث من شاشة النظام التي ظهرت أمامه فجأة.
ظهرت على الشاشة إحصائيات اللاعب، مسجلة تفاصيله بوضوح:
الاسم: كايل استوريت
النوع: إنسان
المستوى: 5←2
نقاط المانا: 2,000,000
الرتبة: E-
الفئة: صياد
القدرة: الخلود المؤقت
(يمكن للاعب أن يمنح نفسه أو الآخرين خلودًا مؤقتًا وفقًا لمستواه ومانا. هذه القدرة تجعله لا يشعر بألم ولا يموت لفترة محدودة. ولكن بمجرد انتهاء تأثيرها... يشعر بالألم الكامل دفعة واحدة.)
قرأت الكلمات في صمت، وعيناي تتحركان ببطء على شاشة النظام المتوهجة.
لقد اكتسبت فئة وقدرة،
نعم، وقد ارتفع المستوى. ظهرت الإحصائيات أمامي كاملةً وواضحةً دون أي تحريف. توقعتُ معلوماتٍ ناقصة أو قدراتٍ مشوهة كما حدث سابقًا، لكن كل شيء بدا كاملًا... هذه المرة.
ما أدهشني أكثر هو أن نقاط المانا - التي استهلكتُ بعضها في المواجهة الأخيرة - عادت كما كانت، ممتلئة، كما لو أن النظام نفسه يُعيد ترتيب قواعد اللعبة. للحظة، شعرتُ وكأن شيئًا ما يُحضّر لي سرًا، شيئًا أكبر من مجرد مستوى جديد أو قدرة استثنائية.
فجأةً، ودون سابق إنذار، اهتزت نافذة النظام أمامي، وظهرت معلومات جديدة، خطوطها حمراء باهتة محاطة بهالة صفراء، كما لو كانت تُنذر بأمرٍ خطير. قرأتُ بتمعّن، وكأن عينيّ رفضتا أن تدع أي تفصيل يمر دون فهمه:
"المهام التي يجب على اللاعب إكمالها، وإلا فسوف يتم معاقبته.
وتتعدد أنواع العقوبات، فقد تكون جسدية، أو عقلية، أو نظامية.
وفي حال إتمامه، سيتم مكافأته وفقًا لمستوى أدائه.
أسفل هذا التحذير، ظهرت قائمة قصيرة ولكن مرعبة:
الركض 10 كيلومترات.
تمرين الضغط: 300 مرة متتالية.
البقاء على قيد الحياة في جزر أراكس.
حدّقتُ طويلًا في المهمة الثالثة... جزر أراكس؟ الاسم وحده كافٍ لجعل الدم يتجمد في عروقي. إنها ليست مجرد مهمة بدنية، بل معركة بقاء في مكانٍ نادرًا ما يعود منه أحياء.
ظهرت على وجهي ابتسامة ساخرة، نصفها تعب ونصفها تحدي، وهمست:
"يبدو أن النظام لم يعد راضيًا بمجرد نقلي إلى منطقة العقاب..."